فصل: تفسير الآية رقم (1):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (86):

{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)}
{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب} تقرير لذلك أيضًا أي سيردك إلى معاد كما أنزل إليك القرآن العظيم الشأن وما كنت ترجوه، وقال أبو حيان. والطبرسي: هو تذكير لنعمته عز وجل عليه عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى: {إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} على ما ذهب إليه الفراء وجماعة استثناء منقطع أي ولكن ألقاه تعالى إليك رحمة منه عز وجل، وجوز أن يكون استثناءً متصلًا من أعم العلل أو من أعم الأحوال على أن المراد نفي الإلقاء على أبلغ وجه، فيكون المعنى ما ألقى إليك الكتاب لأجل شيء من الأشياء إلا لأجل الترحم أو في حال من الأحوال إلا في حال الترحم {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيرًا للكافرين} أي معينًا لهم على دينهم، قال مقاتل: إن كفار مكة دعوه صلى الله عليه وسلم إلى دين آبائه فذكره الله تعالى نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه.

.تفسير الآية رقم (87):

{وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)}
{وَلاَ يَصُدُّنَّكَ} أي الكافرون {عَنْ ءايات الله} أي قراءتها والعمل بها.
{بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} أي بعد وقت إنزالها وإيحائها إليك المقتضى لنبوتك ومزيد شرفك، وقرأ يعقوب {يَصُدُّنَّكَ} بالنون الخفيفة وقرئ {يَصُدُّنَّكَ} مضارع أصد عنى صدّ حكاه أبو زيد عن رجل من كلب قال: وهي لغة قومه وقال الشاعر:
أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم ** صدود السواقي عن أنوف الحوائم

{وادع} الناس {إلى رَبّكَ} إلى عبادته جل وعلا وتوحيده سبحانه: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} ظاهرتهم.

.تفسير الآية رقم (88):

{وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)}
{وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} أي ولا تعبد معه تعالى غيره عز وجل، وهذا وما قبله للتهييج والإلهاب وقطع أطماع المشركين عن مساعدته عليه الصلاة والسلام إياهم وإظهار أن المنهي عنه في القبح والشرية بحيث ينهي عنه من لا يتصور وقوعه منه أصلاف، وروى محيي السنة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: الخطاب في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أهل دينه وهو في معنى ما حكى عنه الطبرسي أن هذا وأمثاله من باب:
إياك أعني واسمعي يا جاره

{لاَ إله إِلاَّ هُوَ} وحده {كُلّ شَيْء} أي موجود مطلقًا {هَالِكٌ} أي معدوم محض، والمراد كونه كالمعدوم وفي حكمه {إِلاَّ وَجْهَهُ} أي إلا ذاته عز وجل وذلك لأن وجود ما سواه سبحانه لكونه ليس ذاتيًا بل هو مستند إلى الواجب تعالى في كل آن قابل للعدم وعرضة له فهو كلا وجود وهذا ما اختاره غير واحد من الأجلة، والكلام عليه من قبيل التشبيه البليغ، والوجه عنى الذات مجاز مرسل وهو مجاز شائع وقد يختص بما شرف من الذوات، وقد يعتبر ذلك هنا، ويجعل نكتة للعدول عن إلا إياه إلى ما في النظم الجليل.

وفي الآية بناءً على ما هو الأصل من اتصال الاستثناء دليل على صحة إطلاق الشيء عليه جل وعلا.
وقريب من هذا ما قيل: المعنى كل ما يطلق عليه الموجود معدوم في حد ذاته إلا ذاته تعالى، وقيل: الوجه عنى الذات إلا أن المراد ذات الشيء، وإضافته إلى ضميره تعالى باعتبار أنه مخلوق له سبحانه نظير ما قيل في قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] من أن المراد بالنفس الثاني نفس عيسى عليه السلام وإضافته إليه تعالى باعتبار أنه مخلوق له جل وعلا، والمعنى كل شيء قابل للهلاك والعدم إلا الذات من حيث استقبالها لربها ووقوفها في محراب قربها فإنها من تلك الحيثية لا تقبل العدم، وقيل: الوجه عنى الجهة التي تقصد ويتوجه إليها، والمعنى كل شيء معدوم في حد ذاته إلا الجهة المنسوبة إليه تعالى وهو الوجود الذي صار به موجودًا، وحاصله أن كل جهات الموجود من ذاته وصفاته وأحواله هالكة معدومة في حد ذاتها إلا الوجود الذي هو النور الإلهي، ومن الناس من جعل ضمير وجهه للشيء وفسر الشيء بالموجود عنى ما له نسبة إلى حضرة الوجود الحقيقي القائم بذاته وهو عين الواجب سبحانه، وفسر الوجه بهذا الوجود لأن الموجود يتوجه إليه وينسب، والمعنى كل منسوب إلى الوجود معدوم إلا وجهه الذي قصده وتوجه إليه وهو الوجود الحقيقي القائم بذاته الذي هو عين الواجب جل وعلا، ولا يخفى الغث والسمين من هذه الأقوال، وعليها كلها يدخل العرش والكرسي والسموات والأرض والجنة والنار، ونحو ذلك في العموم.
وقال غير واحد: المراد بالهلاك خروج الشيء عن الانتفاع به المقصود منه إما بتفرق أجزائه أو نحوه، والمعنى كل شيء سيهلك ويخرج عن الانتفاع به المقصود منه إلا ذاته عز وجل، والظاهر أنه أراد بالشيء الموجود المطلق لا الموجود وقت النزول فقط فيؤول المعنى إلى قولنا: كل موجود في وقت من الأوقات سيهلك بعد وجود إلا ذاته تعالى، فيدل ظاهر الآية على هلاك العرش والجنة والنار والذي دل عليه الدليل عدم هلاك الأخيرين.
وجاء في الخبر أن الجنة سقفها عرش الرحمن، ولهذا اعترض بهذه الآية على القائلين بوجود الجنة والنار الآن والمنكرين له القائلين بأنهما سيوجدان يوم الجزاء ويستمران أبد الآباد، واختلفوا في الجواب عن ذلك فمنهم من قال: إن كلًا ليست للإحاطة بل للتكثير كما في قولك: كل الناس جاء إلا زيدًا إذا جاء أكثرهم دون زيد، وأيد بما روي عن الضحاك أنه قال في الآية: كل شيء هالك إلا الله عز وجل والعرش والجنة والنار، ومنهم من قال: إن المراد بالهلاك الموت والعموم باعتبار الإحياء الموجودين في الدنيا، وأيد بما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية: كل حي ميت إلا وجهه.
وأخرج عنه ابن مردويه أنه قال: لما نزلت {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} [آل عمران: 185] قيل يا رسول الله فما بال الملائكة؟ فنزلت: {كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} فبين في هذه الآية فناء الملائكة والثقلين من الجن والإنس وسائر عالم الله تعالى وبريته من الطير والوحوش والسباع والأنعام وكل ذي روح أنه هالك ميت، وأنت تعلم أن تخصيص الشيء بالحي الموجود في الدنيا لابد له من قرينة فإن اعتبر كونه محكومًا عليه بالهلاك حيث شاع استعماله في الموت وهو إنما يكون في الدنيا قرينة فذاك وإلا فهو كما ترى، ومن الناس من التزم ما يقتضيه ظاهر العموم من أنه كل ما يوجد في وقت من الأوقات في الدنيا والأخرى يصير هالكًا بعد وجوده بناءً على تجدد الجواهر وعدم بقاء شيء منها زمانين كالإعراض عند الأشعري، ولا يخفى بطلانه، وإن ذهب إلى ذلك بعض أكابر الصوفية قدست أسرارهم.
وقال سفيان الثوري: وجهه تعالى العمل الصالح الذي توجه به إليه عز وجل، فقيل: في توجيه الاستثناء إن العمل المذكور قد كان في حيز العدم فلما فعله العبد ممتثلًا أمره تعالى أبقاه جل شأنه له إلى أن يجازيه عليه أو أنه بالقبول صار غير قابل للفناء لما أن الجزاء عليه قام مقامه وهو باق، وروي عن أبي عبد الله الرضا رضي الله تعالى عنه أنه ارتضى نحو ذلك، وقال المعنى كل شيء من أعمال العباد هالك وباطل إلا ما أريد به وجهه تعالى، وزعم الخفاجي أن هذا كلام ظاهري.
وقال أبو عبيدة: المراد بالوجه جاهه تعالى الذي جعله في الناس وهو كما ترى لا وجه له، والسلف يقولون الوجه صفة نثبتها لله تعالى ولا نشتغل بكيفيتها ولا بتأويلها بعد تنزيهه عز وجل عن الجارحة {لَهُ الحكم} أي القضاء النافذ في الخلق {وَإِلَيْهِ} عز وجل: {تُرْجَعُونَ} عند البعث للجزاء بالحق والعدل لا إلى غيره تعالى ورجوع العباد إليه تعالى عند الصوفية أهل الوحدة عنى ما وراء طور العقل.
وقيل: ضمير إليه للحكم، وقرأ عيسى {تُرْجَعُونَ} مبنيًا للفاعل، هذا والكلام من باب الإشارة في آيات هذه السورة أكثره فيما وقفنا عليه من باب تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس ولعله يعلم بأدنى تأمل فيما مر بنا في نظائرها فتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل وهو جل وعلا حسبنا ونعم الوكيل.

.سورة العنكبوت:

أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت بمكة.
وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير نحو ذلك وروي القول بأنها مكية عن الحسن وجابر وعكرمة وعن بعضهم أنها آخر ما نزل بمكة وفي البحر عن الحبر وقتادة أنها مدنية.
وقال يحيى بن سلام: هي مكية إلا من أولها إلى قوله: {وليعلمن المنافقين}.
وذكر ذلك الجلال السيوطي في الإتقان ولم يعزه وأنه لما أخرجه ابن جرير في سبب نزولها ثم قال: قلت ويضم إلى ذلك: {وكأين من دابة} الآية لما أخرجه ابن أبي حاتم في سبب نزولها وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك.
وهي تسع وستون آية بالإجماع كما قال الداني والطبرسي وذكر الجلال في وجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى أخبر في أول السورة السابقة عن فرعون أنه علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم وافتتح هذه بذكر المؤمنين الذين فتنهم الكفار وعذبوهم على الإيمان بعذاب دون ما عذب به فرعون بني إسرائيل بكثير تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم وحثا على الصبر ولذا قيل هنا: {ولقد فتنا الذين قبلهم} وأيضا لما كان في خاتمة الأولى الإشارة إلى هجرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أي في قوله تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} على بعض الأقوال وفي خاتمة هذه الإشارة إلى هجرة المؤمنين بقوله تعالى: {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة} ناسب تتاليهما.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

{الم (1)}
{الم} سبق الكلام فيه وفي نظائره ولم يجوز بعضهم هنا ارتباط ما بعده به ارتباطًا أعرابيًا لأن الاستفهام مانع منه وبحث فيه بأن اللازم في الاستفهام تصدره في جملته وهو لا ينافي وقوع تلك الجملة خبرًا ونحوه كقولك: زيد هل قام أبوه؟ فلو قيل هنا المعنى المتلو عليك.

.تفسير الآية رقم (2):

{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)}
{أَحَسِبَ الناس} إلى آخر السورة ثح فلا يقال أيضًا إن المانع منه عدم صحة ارتباطه بما قبله معنى. نعم الارتباط خلاف الظاهر، والاستفهام للإنكار، والحسبان مصدر كالغفران مما يتعلق ضامين الجمل لأنه من الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر وذلك للدلالة على وجه ثبوتها في الذهن أو في الخارج من كونا مظنة أو متيقنة فتقتضي مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر أو ما يسد مسدهما وقد سد مسدهما هنا على ما قاله الحوفي. وابن عطية. وأبو البقاء: قوله تعالى: {أَن يُتْرَكُواْ} وسد أن المصدرية الناصبة للعفل مع مدخولها مسد الجزأين مما قاله ابن مالك، ونقله عنه الدماميني في شرح التسهيل، وزعم بعضهم أن ذلك إنما هو في أن المفتوحة مشددة ومثقلة مع مدخولها، والترك هنا على ما ذكره الزمخشري عنى التصيير المتعدي لمفعولين كما في قوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] وقول الشاعر:
فتركته جزر السباع ينشنه ** يقضمن قلة رأسه والمعصم

فضمير الجمع نائب مفعول أول والمفعول الثاني متروك بدلالة الحال الآتية أي كما هم أو على ما هم عليه كما في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ} [التوبة: 16] على ما قدره الزمخشري فيه وقوله سبحانه: {أَحَسِبَ الناس أَن} عنى لأن يقولوا متعلق بيتركوا على أنه غير مستقر، وقوله تعالى: {وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} في موضع الحال من ضمير يتركوا، ويجوز أن لا يعتبر كون المفعول الثاني ليتركوا متروكًا بل تجعل هذه الجملة الحالية سادة مسده، ألا ترى أنك لو قلت: علمت ضربي زيدًا قائمًا صح، على أن ترك ليس كأفعال القلوب في جميع الأحكام، بل القياس أن يجوز الاكتفاء فيه بالحال من غير نظر إلى أنه قائم مقام الثاني لأن قولك: تركته وهو جزر السباع كلام صحيح كما تقول أبقيته على هذه الحالة، وهو نظير سمعته يتحدث في أنه يتم بالحال بعده أو الوصف، وههنا زاد أنه يتم أيضًا بما يجري مجرى الخبر، وجوز أن تكون هذه الجملة هي المفعول الثاني لا سادة مسده وتوسط الواو بين المفعولين جائز كما في قوله:
وصيرني هواك وبي ** لحيني يضرب المثل

وقد نص شارح أبيات المفصل على أنه حكى عن الأخفش أنه كان يجوز كان زيد وأبوه قائم على نقصان كان وجعل الجملة خبرًا مع الواو تشبيهًا لخبر كان بالحال فمتى جاز في الخبر عنده فليجز في المفعول الثاني وهو كما نرى، واستظهر الطيبي كون الترك هنا متعديًا لواحد على أنه عنى التخلية وليس بذاك، وجوز الحوفي. وأبو البقاء أن يكون {أَن يَقُولُواْ} بدلًا من أن يتركوا وجوز أن يكون {أَن يُتْرَكُواْ} هو المفعول الأول لحسب و{هُمْ لاماناتهم يُفْتَنُونَ} في موضع الحال من الضمير {وَإِن يَقُولُواْ} بتقدير اللام هو المفعول الثاني، وكونه علة لا ينافي ذلك كما في قولك: حسبت ضربه للتأديب، والتقدير أحسب الناس تركهم غير مفتونين لقولهم: آمنا، والمفعول الثاني ليتركوا متروك بدلالة الحال، واعترضه صاحب التقريب بما حاصله أن الحسبان لتعلقه ضامين الجمل إذا أنكر يكون باعتبار المفعول الثاني، فإذا قلت: أحسبته قائمًا؟ فالمنكر حسبان قيامه، كذلك إذا قيل: أحسب الناس تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا أفاد إنكار حسبان أن الترك غير مفتونين لهذه العلة بل إنما هو لعلة أخرى ولا يلائم سبب النزول ولا مقصود الآية.
واختار أن يكون {أَن يُتْرَكُواْ} سادًا مسد المفعولين و{أَن يَقُولُواْ} علة للحسبان أي أحسبوا لقولهم آمنا أن يتركوا غير مفتونين، وأجيب أن أصل الكلام ألا يفتنون لقولهم آمنا على إنكار أن يكون سببًا لعدم الفتن، ثم قيل: أيتركون غير مفتونين لقولهم آمنا مبالغة في إنكار أن يبقوا من غير فتن لذلك ثم أدخل على حسبان الترك مبالغة على مبالغة، وإنما يرد ما أورد إذا لم يلاحظ أصل الكلام ويجعل مصب الإنكار الحسبان من أول الأمر.
وقيل: إنما يلزم ما ذكر لو لم يقدر أحسبوا تركهم غير مفتونين جرد قولهم: آمنا دون إخلاص وعمل صالح أما لو قدر ذلك استقام كما صرح به الزجاج، على أن ذلك مبني على اعتبار المفهوم، واعترض ذلك بعضهم من حيث اللفظ بأن فيه الفصل بين الحال وذيها بثاني مفعولي حسب وهو أجنبي؛ وأجيب بأن الفصل غير ممتنع بل الأحسن أن لا يقع فصل إلا إذا اعترض ما يوجبه، وههنا الاهتمام بشأن الخبر حسن التقديم لأن مصب الإنكار ذلك، ولا يخفى أنه يحتاج إلى مثل هذا الجواب على ما يقتضيه الظاهر من جعل {أَن يُتْرَكُواْ} في تأويل مصدر وقع مفعولًا أولًا {وَإِن يَقُولُواْ} في تأويل مصدر أيضًا مجرور بلام مقدرة والجار والمجرور في موقع المفعول الثاني، وأما على ما ذكره بعض المحققين من أنهما لم يجعلا كذلك وإنما جعل {أَن يَقُولُواْ} معمولًا ليتركوا بتقدير اللام وجعل {أَن يُتْرَكُواْ} سادًا مسد المفعولين واقتضى المعنى أن يقال أحسب الناس تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا بجعل تركهم مفعولًا أولًا ولقولهم مفعولًا ثانيًا فلا يحتاج إليه لأنه إن جرينا مع اللفظ كان {أَن يُتْرَكُواْ} سادًا مسد المفعولين فلا يكون فيه مفعول ثان فاصل بين الحال وذيها وإن جرينا مع المعنى واعتبرنا الكلام مجردًا عن أن المصدرية وجيء به كما سمعت كانت الحال متصلة بذيها، وقيل: يجوز أن يكون المفعول الأول لحسب محذوفًا أي أحسب الناس أنفسهم و{أَن يُتْرَكُواْ} في موضع المفعول الثاني على أنه في تأويل مصدر وهو في تأويل اسم المفعول أي متروكين وهم لا يفتنون في موضع الحال كما تقدم وأن يؤمنوا بتقدير لأن يؤمنوا متعلق بيتركوا فكأنه قيل: أحسب الناس أنفسهم متروكين غير مفتونين لقولهم آمنا، وقيل: إن هذا المعنى حاصل على تقدير سد {أَن يُتْرَكُواْ} مسد المفعولين فتأمل فيه وفيما قبله، ولعل الأبعد عن التكلف ما ذكرناه أولاف، والمراد إنكار حسبانهم أن يتركوا غير مفتونين جرد أن يقولوا آمنا واستبعاد له له وتحقيق أنه تعالى يمتحنهم شاق التكاليف كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات ووظائف الطاعات وفنون المصائب في الأنفس والأموال ليتميز المخلص من المنافق والراسخ في الدين من المتزلزل فيه فيعامل كل بما يقتضيه ويجازيهم سبحانه بحسب مراتب أعمالهم فءن مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في النار.
وذكر بعضهم أنه سبحانه لو أثاب المؤمن يوم القيامة من غير أن يفتنه في الدنيا لقال الكافر المعذب: ربي لو أنك كنت فتنته في الدنيا لكفر مثلي فإيمانه الذي تثيبه عليه مما لا يستحق الثواب له فبالفتنة يلجم الكافر عن مثل هذا القول ويعوض المؤمن بدلها ما يعوض بحيث يتمنى لو كانت فتنته أعظم مما كانت والآية على ما أخرج عبد بن حميد. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن الشعبي نزلت في أناس كانوا كة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم إقرار ولا إسلام حتى تهاجروا فخرجوا عامدين إلى المدينة فاتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا إليهم أنزلت فيكم آية كذا وكذا فقالوا: نخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزل الله تعالى فيهم {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جاهدوا وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 110].
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال سمعت ابن عمير وغيره يقولون: كان أبو جهل يعذب عمار بن ياسر وأمه ويجعل على عمار درعًا من حديد في اليوم الصائف وطعن في فرج أمه برمح ففي ذلك نزلت {أَحَسِبَ الناس} إلخ، وقيل: نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب قتل ببدر فجزع عليه أبواه وامرأته وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة»، وقيل: نزلت في عياش أخي أبي جهل غدر وعذب ليرتد كما سيأتي خبره إن شاء الله تعالى، وفسر الناس بمن نزلت فيهم الآية، وقال الحسن الناس هنا المنافقون.